يبدو أن عدم اليقين بشأن المستقبل هو الشيء الوحيد المؤكد في جائحة فيروس كورونا. لا أحد يعرف هل كانت الإصابة بـكوفيد-19 ستستمر على وتيرتها الحالية، أم سيؤدي التفاعل المتزايد بين الناس مؤخرًا إلى هجمات تفشٍّ أصغر أو موجة ثانية أكبر. لكن هناك بعض الأشياء الواضحة: من المرجح أن يستمر الفيروس المُسبب للمرض في الانتشار بين السكان حتى ظهور لقاح. كما أن موسم الإنفلونزا على بُعد بضعة أشهر فقط.

يُثير التداخل بين كوفيد-19 والإنفلونزا قلق علماء الأوبئة وبعض صانعي السياسات؛ إذ لديهم مخاوف من أن تواجه الولايات المتحدة قريبًا وباءين في الوقت نفسه، وقد يؤدي هذا المزيج إلى أزمة لا مثيل لها. يقول مارك ليبسيتش، عالِم الأوبئة في جامعة هارفارد: “في أسوأ السيناريوهات، سوف ينتشر كلٌّ من فيروس كورونا والإنفلونزا بسرعة ويسببان مرضًا شديدًا، مما يعقِّد التشخيص ويُشكِّل عِبئًا مزدوجًا على نظام الرعاية الصحية”. القليل من الولايات تخطط لتوفير سعة إضافية في المستشفيات للتعامل مع كلا المرضين.

إلا أن هناك مستقبلًا آخر أكثر ملاءمةً، قد يكون ممكنًا أيضًا في ظل تقاطع طرق هذه الفيروسات، كما يقول ليبسيتش وغيره ممن يتوقعون مستقبل الأمراض المُعدية. إن التغيرات السلوكية التي تبنَّاها الناس بالفعل لتسطيح منحنى كوفيد-19 -مثل التباعد الاجتماعي وغسل اليدين وارتداء قناع الوجه- قد تقلل من تأثير الإنفلونزا.

تقول سارة كوبي، عالِمة الأوبئة في جامعة شيكاجو: “من الصعب التكهن”. ليس من غير المعروف فقط هل سينحسر فيروس كورونا حينًا ويشتد حينًا مع تغيُّر الفصول، ولكن “ما هو صعب حقًّا هو أنه ليس لديَّ توقعات دقيقة بشأن السلوك البشري والقرارات المتعلقة بالسياسات التي سيتم اتخاذها خلال الأشهر القليلة المقبلة”، وفق تعبير كوبي. يوضح جيفري شيمن -عالِم الأوبئة في جامعة كولومبيا- أنه إذا اتبع سارس-كوف-2 أنماطًا موسمية كالتي يتخذها بعض الفيروسات الأخرى في عائلتي كورونا والإنفلونزا، فقد ينحسر في الصيف، ويضيف مستدركًا: “لكنه قد يعود مرةً أخرى ليطاردنا. ربما نتهاون، مما قد يجعلنا غير مستعدين”. من الجدير بالذكر أن القرن الماضي قد شهد أربع جوائح لفيروسات الإنفلونزا، وهي: H1N1 في عام 1918، وH2N2 في عام 1957، وH3N2 في عام 1968، وH1N1 في عام 2009 -جاءت في موجة ثانية مميتة في فصل الخريف وبداية فصل الشتاء. قد يسلك كوفيد-19السلوك نفسه. يقول شيمن معلقًا: “إن القلق من احتمال إصابتنا بضربة مزدوجة من الإنفلونزا وفيروس كورونا أمرٌ له ما يسوِّغه”.

في كل عام، تُصيب الإنفلونزا الملايين من الأشخاص في الولايات المتحدة، وفي السنوات العصيبة بالتحديد، تتسبب الزيادة المفاجئة في حالات الإنفلونزا في ارتباك المستشفيات وأنظمة الرعاية الصحية؛ ففي خلال موسم الإنفلونزا 2017-2018، أفادت وكالات الأنباء المحلية بأن المستشفيات في جميع أنحاء البلاد أرسلت في إحضار ممرضات بالطائرات من ولايات أخرى، ونَصبت الخيام في مواقف السيارات، وأرسلت سيارات إسعاف إلى مرافق أخرى بسبب الزيادة الكبيرة في أعداد المرضى. وفق تقديرات المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، توفي ما بين 46000 و95000 أمريكي من جَراء إصابتهم ذلك الموسم. على الرغم من أن فيروس كورونا الجديد وفيروسات الإنفلونزا قد تسبب بعض الأعراض المتشابهة -مثل الحمى والسعال والإرهاق- فإن هذه التشابهات غالبًا ما تكون ظاهريةً فقط؛ فمسبِّبات الأمراض تستخدم مستقبِلات مختلفة موجودة على الخلايا للوصول إلى أجسامنا، ونتيجةً لذلك، قد يدخل سارس-كوف-2 من طريق، في حين يتسلل فيروس الإنفلونزا من طريق أخرى. في دراسة أُجريت على حوالي 1200 مريض في شمال كاليفورنيا، ونُشرت في دورية جاما (JAMA) في أبريل، تَبيَّن أن واحدًا من كل خمسة أشخاص جرى تشخيص إصابتهم بـكوفيد-19 كان مصابًابفيروس تنفسي آخر في الوقت ذاته. يقول بن كاولينج، عالِم الأوبئة بجامعة هونج كونج: إن خطورة مثل هذه العدوى المشتركة منخفضة عادةً، ولكنها تشتد عندما ينتشر فيروسان بشكل كبير في المنطقة نفسها. يقول كاولينج: “من الممكن أن تصاب بالفيروسين في الوقت نفسه بالضبط إذا كنت سيئ الحظ حقًّا”.

بالرغم مما سبق، يعتقد كاولينج وبعض علماء الأوبئة الآخرين أن الطريقة التي تتفاعل بها الفيروسات ويتداخل بعضها مع بعض قد تقلل من تأثير أي ضربة مزدوجة لفيروس كورونا وفيروس الإنفلونزا. لقد تعقَّب العلماء الأوبئة على مدار عقود، ووجدوا أن فاشيات فيروسات الجهاز التنفسي عادةً لا تصل إلى ذروتها خلال المدة الزمنية ذاتها. وعلى الرغم من أن أحدًا لا يعرف بالضبط السبب وراء هذه الظاهرة، فقد افترضت دراسة نُشرت العام الماضي في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences) بالولايات المتحدة الأمريكية أن الدفقات المؤقتة للمناعة ضد الفيروسات المختلفة على المستوى الخلوي قد تغير مسار الأوبئة في المستقبل. على سبيل المثال، يبدو أن تفشِّي الفيروس الأنفي ((rhinovirus -الذي يسبب نزلات البرد الشائعة- قد أخر وصول جائحة الإنفلونزا عام 2009 إلى أوروبا. وهذا التأثير، بدوره، قد أخَّر غالبًا انتشار أوبئة مرتبطة بمرض آخر: الفيروس التنفسي المخلوي.

تقول كوبي: “هناك جزء كبير من السكان مُعرَّض حاليًّا للإصابة بـكوفيد-19. لنفترض أننا لا نبذل جهدًا دؤوبًا لوقف انتقال العدوى، فسوف تستمر في الانتشار كالنار في الهشيم بين السكان، تاركةً تلك الصحوة المناعية التي قد تكون فعالةً قليلًا ضد الفيروسات الأخرى”. تعترف كوبي بأن هذه الفكرة تقبع في “الجانب التخميني من الفرضيات”. لن تكون المناعة المفترضة قويةً بما يكفي لحماية شخص تعافى -على سبيل المثال- من فيروس كورونا، أو العكس. ولكن على مستوى السكان، قد يعني ذلك أن الفيروسات الأخرى قد لا تنتشر بالسرعة المعتادة، وبالتالي قد تتأخر ذروتها الوبائية.

والسبب الآخر في أن تأثير هذه الضربة المزدوجة قد لا يكون خطيرًا يُعد أشد ارتباطًا بالسلوك البشري منه بعلم الفيروسات: ينتقل كلٌّ من كوفيد-19والإنفلونزا -في معظم الأحيان- عن طريق القطرات الصادرة عن الجهاز التنفسي، لذا فإن إستراتيجيات الوقاية ذاتها المستخدمة للحد من انتشار الأول ستعمل أيضًا على الحد من انتشار الثاني.

في دراسة نُشرت في دورية ذالانسيت (The Lancet) في أبريل الماضي، أظهر كاولينج أن تدابير الصحة العامة التي جرى العمل بها في هونج كونج لاحتواء فيروس كورونا، مثل القيود الحدودية والحجر الصحي والعزل والتباعد الاجتماعي وارتداء قناع الوجه وغسل اليدين، أدت إلى انخفاض سريع في نشاط الإنفلونزا. وفي الولايات المتحدة، تراجعت حالات الإنفلونزا الجديدة بعد أسابيع قليلة من إعلان كوفيد-19جائحةً عالمية. انتهى موسم الإنفلونزا 2019-2020 -والذي كان على وشك أن يكون من بين الأسوأ منذ عقود- قبل موعده بستة أسابيع.

ولكن مع تخفيف بعض الولايات الأمريكية من القيود المفروضة على النشاط والسفر، قد تتغير سلوكيات الأشخاص بطرق تسهل انتقال الفيروس، لذلك فإن مواجهتنا لخطر مزدوج لا يزال أمرًا محتملًا، وليس من الواضح ما هي الاستجابة الفيدرالية -إن وُجدت- التي يجري إعدادها من أجل الاستعداد لهذا الخطر. في أبريل الماضي، قال روبرت ريدفيلد -مدير المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها- لصحيفة واشنطن بوست: “سنواجه وباء الإنفلونزا ووباء فيروس كورونا في الوقت نفسه”. وبعد أن زعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن ريدفيلد جرى اقتباس كلامه بشكل خطأ، أعاد المدير بيانه مرةً أخرى، قائلًا إنه لا يعني أن الأزمة الحالية ستكون أسوأ، لكنها ستكون فقط “أكثر صعوبةً، وربما تكون معقدة”. (لم تستجب المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها لطلبات مجلة ساينتفك أمريكان (Scientific American) للحصول على تعليق بخصوص هذا الأمر).

في أواخر شهر مايو الماضي، أرسلت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين رسالةً إلى البيت الأبيض تطلب منه الاستعداد لأسوأ سيناريو فيما يخص تداخل الوباءين معًا، فكتبوا راجين: “نحثكم على البدء في التخطيط لموارد الحكومة الفيدرالية وتفعيلها الآن وزيادة الطاقات والإمدادات والتطعيمات، وذلك لمنع الصحة العامة والأنظمة الطبية من الانهيار تحت وطأة الذروات المتزامنة لكلٍّ من هذين المرضين المُعديين القاتلين في فصل الخريف”.

على مستوى الولايات، يعمل بعضها على تحديث خطط المستشفيات للتعامل مع الارتفاع المفاجئ في الحالات وتوسيع برامج مراقبة الأمراض المعدية لتشمل كلًّا من الإنفلونزا وكوفيد-19. فعلى سبيل المثال، تعمل إليزابيث تيلسون -مدير الصحة بولاية كارولينا الشمالية، والتي تشارك في قيادة فرقة العمل المعنية بفيروس كورونا في الولاية- مع الأنظمة الصحية لوضع خطط رامية إلى زيادة قدرتها الاستيعابية من خلال تحويل المرافق غير المستخدمة أو شراء أسرّة إضافية أو توظيف كوادر إضافية. تشير تيلسون قائلةً: “لحسن الحظ، لم نضطر إلى تطبيق أيٍّ من خطط الطوارئ الخاصة بتلبية الاحتياجات المفاجئة. ولكن لدينا جميع هذه الخطط، سواء كانت متعلقة بكوفيد-19 فقطأم بكوفيد-19والإنفلونزا معًا”.

تحاول كوبي إقناع الحكومة في ولاية إلينوي، مسقط رأسها، بأن تضع خطة للترصد الإنذاري، يمكن أن تنبه المسؤولين إلى الزيادات المفاجئة التي قد تقع في المستقبل في حالات الإصابة بـكوفيد-19 والإنفلونزا، لكنها تقول إن اقتراحاتها لم تحظَ سوى بالقليل من الانتباه. أنظمة المراقبة هذه موجودة بالفعل في ولايات أخرى، من ضمنها ولاية كارولينا الشمالية وميشيجان. كما تتتبع المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها كلا المرضين على مستوى الدولة، وتصدر تقرير مراقبة أسبوعيًّا عن الفيروسات التي تسببهما.

تُشير تيلسون إلى أنه مهما حدث، فهناك خطوة أساسية واحدة يمكن للناس اتخاذها، وقد تغير مسار أيٍّ من الوبائين، إذ تقول: “ليس لدينا لقاح لكوفيد-19، لكن لدينا بالفعل لقاح ضد الإنفلونزا. فلتأخذ هذا اللقاح”.